مهنة التدريس
في مواجهة التنظيم البيروقراطي للتعليم
1
أحمد أغبال
. 1. وضعية المدرس
إذا كان الباحثون في علوم التربية قد أولوا مكانة خاصة للمدرسين في بحوثهم، فإن اهتماماتهم انصب في معظم الأحيان على أدوارهم البيداغوجية والتربوية، وعلى مكانتهم في نظام التعليم باعتبارهم فاعلين تربويين. وإلى عهد قريب، ظلت نظرية الدور théorie des rôles المرتبطة بالنظرية الوظيفية توجه معظم البحوث التي تناولت المدرسين لما توفره من إمكانيات هائلة للقيام ببحوث ميدانية لسهولة أجرأة مفاهيمها(Grace, 1978) . ولا يختلف الأمر بالنسبة للاتجاهات النقدية في علم الاجتماع ممثلة ببرنشطاين وبورديو، والتي أولت عناية خاصة لعلاقات المدرسين بالطبقات الاجتماعية والدولة، وانشغلت بدراسة دورهم السياسي-الأيديولوجي باعتبارهم عناصر فعالة في عملية معاودة الإنتاج على الصعيدين الاجتماعي والثقافي. يبدو وكأن هؤلاء الباحثين يتعاملون مع المدرس كما لو كان مجرد آلة في الجهاز التعليمي مسخرة لخدمة أهداف هذا الجهاز لا غير، كما لو أنه كائن يعمل لتحقيق حاجات الآخرين دون أن تكون له هو مصلحة خاصة في العمل الذي يقوم به، أو حاجة يسعى ألى تلبيتها من خلال كدحه. ولذلك تم إغفال الواقع الوجودي للمدرس وتجربته الذاتية في العمل.
إن رجل التعليم هو مربي، هذا صحيح، ولكنه ليس مربيا على الطريقة المثالية السقراطية. كان سقراط يتسكع في شوارع أثينا وسخا عاري القدمين يعلم الحكمة للشباب ويوصيهم بالنظافة والأناقة، ولا يتقاضى أجرا على ذلك .(Encyclopédie de la Pléiade, 1974) ما هو مورد رزقه؟ وماذا كان يجني من عمله ؟ مورد رزقه أهملته ذاكرة المؤرخين، ربما لأن سقراط نفسه قلل من قيمته وتعالى عليه. وأما بخصوص المسألة الثانية، فلا شك أنه كان يجني المتعة في تبليغ الرسالة وتحقيق الذات. لم يشتغل سقراط في إطار مؤسساتي، ولكن في فضاء الأغورا، متحررا من ضغوط العمل والمراقبة المؤسساتية، فهو المشرع والمبرمج والمنفذ، تلك هي مقومات البطولة.
كان سقراط بطل زمانه الأكبر. كان يواجه مختلف القوى الاجتماعية مؤمنا بقدرته على التأثير فيها. لم يطمح إلى الارتقاء ماديا، ولكن إلى التسامي الروحي. فلو كان طموحه هو الترقية المادية وتسلق السلم الاجتماعي لكان حرمانه من مورد الرزق كافيا لعقابه وردعه، لذلك توجه العقاب إلى صد الروح عن تساميها بقتله.
رجل التعليم في زماننا كادح بالمعنى المعاصر لكلمة الكدح. إنه بروليتاري، بغض النظر عن طبيعة العمل الذي يقوم به والذي هو عمل فكري أو ثقافي .(Orga and Lawn, 1981) يشير مفهوم البلترة عند أورغا إلى العملية التي تحصل عندما يفقد العامل القدرة على برمجة أعماله وعلى إنجازها، تتمثل تلك العملية أساسا في نقل مهاراته خارج ميدان العمل. يترتب عن هذه الوضعية تقلص دائرة استقلال المدرس الكادح، واشتداد المراقبة عليه، وتدني مهاراته، وتوتر علاقاته مع الإدارة. كانت هذه المشاكل تخص عمال المصانع في مرحلة أولى، ثم انتشرت بعد ذلك لتعم أوساط المدرسين وجميع ذوي الياقات البيضاء.
2. العمل والحاجات البشرية.
لقد اتجهت الأعمال في عصرنا الراهن نحو مزيد من التجانس، وبدأت تنمحي الفوارق بين العمل اليدوي والعمل الفكري. لذلك لزم أن ننظر إلى المدرس على أنه عامل بروليتاري قبل أن يكون مربيا، وظف لتربية الناشئة وفقا لبرامج وأهداف لم يخترها ولم يشارك في وضعها، وربما تعارضت مع ما يطمح إليه، وهو يتقاضى أجرا مقابل خدماته، وليست له سيطرة على الوضعية التعليمية التي تحكمها مبادئ بيروقراطية تخرج عن نطاق إرادته وتحكمه.إن ضغوط العمل التي تميل إلى سحق ذات المدرس الكادح، وفقدان القدرة على السيطرة على الأوضاع هي الخصائص الأساسية التي يعبر عنها مفهوم البلترة، وهي التي تحدد حقيقة وجوده كمدرس. لذلك اعتبرت مسألة الشغل من القضايا الأساسية التي تهم جميع الكائنات البشرية، وأصبح مفهوم الشغل يحتل مكانة مركزية في جميع العلوم (Galtung ;1985). هذا ما عبر عنه الباحث رشارد براون بقوله أن أهم الأسئلة وأكثرها خصوبة في علم الاجتماع هو ذلك السؤال الذي نطرحه على الناس لمعرفة ماذا يعملون، لأنه يمكننا من معرفة حقيقة تجربتهم في الحياة ( أورد. (Burgess, 1986 وهذا ما ذهب إليه هوغس Hughes أيضا حين قال بأن مفهوم العمل هو مفتاح معرفة حياة الإنسان ووجوده الاجتماعي وهويته ( اورده هارتنت Hartnett (1982). وقد سبق لولر (Waller, 1932) أن طرح هذا السؤال بالنسبة للمدرسين قبل عدة عقود وصاغه على الشكل التالي : ماذا يصنع فعل التعليم بالمعلمين ؟ وما هي محددات مهنة التعليم ؟ غير أن الجواب عن هذا السؤال ظل عالقا زهاء نصف قرن، ولم يبدأ الاهتمام بشكل جدي بقضايا العمل التربوي ودلالاته بالنسبة للمدرسين، وضغوطه عليهم، وآثاره على نفسيتهم وروحهم المعنوية إلا في بداية السبعينيات. وتعتبر أعمال كيدي (Keddie, 1971). وأعمال شارب وغرين.(Sharp and Green, 1975) رائدة في هذا المجال. فقد حاولوا تسليط الضوء على الواقع الذاتي للمدرسين في علاقته بضغوط العمل في إطار وضعية محددة. ثم درس رنلد غراس بعد ذلك تأثير ظروف العمل على وعي المدرسين البريطانيين من منظور اجتماعي-تاريخي على إمتداد النصف الثاني من القرن التسع عشر والقرن العشرين (Grace, 1978).
وإذا كان المدرس من جملة الكادحين الذين يشتغلون في وضعيات وظروف قاهرة، فإنه إنسلن يتميز بما لديه من إرادة ونزوع إلى الحرية والاستقلال، وبما له من حاجات فيزيولوجية وسيكولوجية. لذلك، فإن أية نظرية في العمل لابد وأن تنطوي على تصور معين لدوافع الإنسان وحاجاته. ذلك لأن مفهوم الحاجة يساعد على فهم حقيقة وجوده الاجتماعي وواقعه الذاتي في تفاعله مع مختلف عوامل محيط العمل. وقد حاول بعض الباحثين المهتمين بدراسة ظاهرة الشغل في المنظمات الصناعية وغيرها بلورة نظرية عن الحاجات على أساس تصور معين لطبيعة الإنسان. ولعل من أشهر الإنجازات التي تحققت في هذا المجال تلك التي ترتبط بأسماء كل من أبرهام ماصلو (Maslow,1954) وفردريك هرزبرغ(Hertzberg,1966) وجوهان غالتونغ (Glatung,1985).
يرى ماصلو أن القوة الدافعة في العمل هي الرغبة في تلبية مجموعة من الحاجات. ولكن هذه الحاجات لا تفرض نفسها على الفرد دفعة واحدة وفي وقت واحد، بل تظهر الواحدة منها تلو الأخرى وفقا لمنطق الأوليات الذي يحكم تراتبها. وأول ما يظهر من الحاجات عند الفرد، في نظره، هي الحاجات الفيزيولوجية التي تفصح عن نفسها بواسطة الشعور بالجوع والعطش الخ. تليها الحاجة إلى الأمن، وهي تفصح عن نفسها من خلال الخوف من انقطاع الموارد التي تلبي الحاجات السابقة، ثم تأتي بعدها الحاجات الاجتماعية، وهي تتمثل في الرغبة في إقامة علاقات ذات معنى ودلالة مع الآخرين، وتليها الحاجة إلى الاعتبار الذاتي، ويقصد بها اعتبار الشخص لذاته وتقدير الآخرين له. وعندما تتحقق هذه الحاجات كلها يشعر الشخص بالرغبة في تحقيق الذات self actualization وهي اسمى الحاجات كلها على الإطلاق، وتتحقق عندما يشعر الشخص بأن ما يفعله يتطابق تماما مع ما ينوي ويقصد فعله. ويرى ماصلو أن الحاجات العليا لا يستشعرها المرء إلا إذا استطاع تحقيق ما دونها في الرتبة أو على الأقل تحقيقها بنسبة مهمة.
وأما هرزبورغ فإنه انطلق من نظرية ماصلو ليؤسس نظريته المشهورة باسم " نظرية الحوافز والوقاية الصحي"Motivator hygiene theory، ويميز فيها بين نوعين من الحاجات :
أ- الحاجات التي يتوقف إشباعها على ما يسميه هرزبرغ عوامل الوقاية الصحية hygiene factors في محيط العمل. يتعلق الأمر بالحاجات الفيزيولوجية والاجتماعية والحاجة إلى الأمن. وأما عوامل الوقاية الصحية فيقصد بها سياسة المنظمة وإدارتها وأجهزة المراقبة والأجور والعلاقات البيشخصية وظروف العمل. يحول إشباع هذه الحاجات دون تولد الشعور بالأسى والألم، ولكنه لا يخلق الشعور بالمتعة والرضا. وأما عدم إشباعها فإنه يولد الألم والقلق والانزعاج والشعور بالحرمان وعدم الرضا.
ب- الحاجات التي ينم إشباعها عن ارتقاء الذات وتناميها كالحاجة إلى اعتبار الذات والحاجة إلى تحقيقها، وهي ترتبط بالعوامل المحفزة motivator factors كالإنجاز والمسئولية والاعتراف بالإنجاز وتقديره وإمكانيات الترقية وطبيعة الشغل ذاته. عندما يتسنى للشخص إشباع هذه الحاجات فإنه يشعر بالمتعة والرضا والارتياح. ولكن عدم إشباعها لا يولد الشعور بالأسى والألم ولا بالحرمان وعدم الرضا.
تختلف العوامل التي تفسر ظاهرة الاستياء وعدم الرضا عن العمل، حسب هذه النظرية، عن العوامل المسئولة عن تنامي الشعور بالرضا عن العمل. ذلك لأن الرضا عن العمل يرتبط بعوامل الوقاية الصحية، فإن كان تقدير الفرد لهذه العوامل سلبيا فإنه سيكون عرضة لمشاعر الحرمان والإحباط وعدم الرضا عن العمل، وإذا كان تقديره لها إيجابيا أمكنه التخلص من هذه المشاعر. ولكن الاتجاه الإيجابي نحو عوامل الوقاية الصحية، وإن كانت تساعد على التخلص من مشاعر الحرمان والإحباط وعدم الرضا، فإنها مع ذلك لا تولد الشعور بالارتياح والرضا عن العمل. وأما الرضا عن العمل فإنه يرتبط بالعوامل المحفزة: فإن كانت نظرة الفرد إليها إيجابية، أدى ذلك إلى تنامي الشعور بالرضا عن العمل. وأما النظرة السلبية إليها فلا يعتبرها هرزبورغ كافية للإيقاع بالفرد في ورطة الشعور بالحرمان.
ولقد استعمل أرجرس Agiris نظرية ماصلو لتفسير ظاهرة الاستلاب وانسلاخ الفرد عن واقع العمل، وعزى ذلك إلى التعارض القائم بين خصائص المنظمة وحاجات الفرد السامية، من حيث أن المنظمة لا توفر للفرد الشروط الضرورية لإشباع الحاجة إلى اعتبار الذات وتحقيقها.
وعلى الرغم من أهمية نظرية ماصلو وخصوبتها المتجلية فيما استلهمته من أعمال، فإنها تعرضت لانتقادات عديدة؛ إلا أن هذه الانتقادات لا تقلل من قيمتها، بل تشهد على خصوبتها بطريقة أخرى. ذلك لأن النقد لم يؤد إلى أحداث قطيعة نهائية معها، بل ساعد على تطويرها من خلال تعديلها وإغنائها. ولعل أهم ما يؤخذ على ماصلو قوله إن الحاجات لا تظهر دفعة واحدة وفي وقت واحد؛ ونفى بعض الباحثين أن تكون متراتبة ومتفاوتة من حيث قيمتها وأهميتها بالنسبة لحياة الإنسان(Galtung, 1985)..
وإذا كانت بنية الحاجات قد أخذت شكلا هرميا في نظرية ماصلو فإن غالتونغ قدم لنا تصورا آخر عنها، وميز فبها بين مجموعتين وهما : الحاجات المادية أو الفيزويلوجية والحاجات اللامادية أو الروحية. وقسم كل مجموعة منهما إلى قسمين، وهي الحاجات التي يتوقف إشباعها على السلوك الفعلي للشخص العياني المحدد، والحاجات التي يتوقف إشباعها على الإمكانيات التي تتيحها طريقة اشتغال البنيات الاجتماعية. ويترتب عن هذا التقسيم وجود أربعة أنواع من الحاجات، نوردها في الخطاطة التالية مرفقة بنقائضها موضوعة بين قوسين.
أنواع الحاجات ونقائضها
|
الحاجات التي يتوقف أشبعها على نشاط الفرد
|
الحاجات التي يتوقف إشباعها على طريقة اشتغال البنيات
|
الحاجات المادية
|
ضمان العيش والبقاء
(العنف، الموت)
|
الرفاهية والرخاء
(الفقر، الموت)
|
الحاجات اللامادية
|
الحرية
(القمع)
|
إثبات الهوية
(الاستلاب)
|
المصدرGaltung، 1985، ص 131.
يقصد بالرفاهية والرخاء الحالة التي يكون عليها الإنسان عندما تتحقق له كل شروط العيش كالمأكل والملبس والمسكن والادخار والتعليم والصحة ووسائل النقل والاتصال؛ ويمتد بعضها إلى مشارف الحياة النفسية أو الروحية للإنسان. وما يميز الحاجات المادية هو كونها معرضة باستمرار للانتفاء، إما بسبب العنف المباشر المؤدي إلى الموت، وإما بسبب العنف غير المباشر المرتبط بطريقة اشتغال البنيات، والذي يؤدي عبر الفقر إلى الموت البطيء. وأما الحاجات اللامادية فإنها ملازمة لحياة الإنسان، ولا يتوقف طهورها على ولوج مرحلة الرفاهية والرخاء، بل ربما وجدت لدى الحيوان أيضا، ولعل ما يدل على ذلك هي حالة الاكتئاب التي تظهر على الحيوانات البرية التي تمضي حياتها في سجن الحدائق.
ولما كانت نظرية العمل تقتضي بالضرورة نظرية الحاجات لزم النظر إلى المدرس باعتباره إنسانا يسعى، قبل كل شيء، من خلال نشاطه المهني، إلى ضمان العيش والرخاء، يلازمه في ذلك طموح إلى الحرية ولاستقلال وإثبات الهوية. ولكن، ماذا لو أدت طريقة اشتغال بنيات المنظمة التي يعمل فيها إلى سلب حريته وهويته ؟