الأخلاق المتعالية
أحمد أغبال
"تصرف على نحو تُعامل معه الإنسانية دائما وأبدا، سواء في شخصك أو في شخص غيرك، كغاية، ولا تعامل أحدا البتة كما لو كان مجرد وسيلة فقط"
.
تنطوي هذه القولة على مبدأ أخلاقي عام،: وهو الأمر المطلق غير المقيد بشروط والذي أسس عليه كانط نظريته في الأخلاق. إن هذا المبدأ هو القاعدة الأخلاقية الأساسية التي يجب أن توجه سلوكنا، وتقضي بأن نحترم الآخرين ونحترم أنفسنا، وأن نلتزم دائما بعدم استغلال الآخرين أو التعامل معهم كما لو كانوا مجرد مطية لبلوغ مآربنا الأنانية. تنطوي القولة، إذن، على المبدأ الذي تنبني عليه نظريته في الأخلاق، وتبين كيفية تطبيقه على المستوى العملي في حياتنا اليومية.
إن الأمر المطلق هو القاعدة الوحيدة الممكنة والضرورية لتأسيس الأخلاق على اعتبار أن العقل هو مصدرها وليس التجربة. وإذا أردنا أن نعبر عن هذه الفكرة بلغة كانط ومفاهيمه لقلنا إن مبدأ الأمر المطلق هو مبدأ قبلي ومتعالي، أي سابق على التجربة، وهو مطلق وغير مقيد بشروط، ومعنى ذلك أنه مستقل عن أية مصلحة شخصية وعن الملابسات الظرفية والأهداف الخاصة، ولا يعبر بالتالي إلا عما ينبغي أن يكون باعتباره الواجب الذي لا مناص منه، ولهذه الاعتبارات يسمي كانط مبدأه الأخلاقي هذا بمبدأ استقلال الإرادة. ويدل مفهوم الاستقلال، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، على التعالي، والمقصود بذلك أنه متعالي عن ظروف الزمان والمكان ولا يتأثر بها، ومعنى ذلك أيضا أنه مبدأ ذو صلاحية كونية. فما هو دليل كانط على أن لهذا المبدأ صلاحية كونية ؟
إن ما يبرر الصلاحية الكونية لمبدأ الواجب الأخلاقي في نظر كانط هو وجوده القبلي في العقل الخالص؛ فبما أن العقل واحد بالنسبة للبشرية جمعاء فإنه لابد أن تكون له صلاحية كونية. إن وجوده القبلي في العقل الخالص هو الذي يجعل منه قانونا أخلاقيا يفرض نفسه على الضمير البشري كواجب يجب أن يلتزم به كل فرد دائما وأبدا مهما كانت الظروف. وكذلك فإن ما يبرر دعوة كانط إلى الصلاحية الكونية لمبدأ الواجب الأخلاقي هو إيمانه بأن الإرادة الخيرة التي تهتدي في وجودها بمبدأ معين هي الشيء الوحيد الذي يعتبر خيرا في ذاته، إن الإرادة الخيرة التي تريد الخير لنفسها ولغيرها هي الخير في ذاته. وإذا كان لابد للإرادة الخيرة أن تكون مبدئية في مساعيها فإن المبدأ الوحيد الذي يجب أن تعمل به بحكم طبيعتها الخيرة فهو مبدأ الأمر المطلق الذي يقضي بأن ننظر إلى أي إنسان على أنه قيمة في حد ذاته، وبسبب ذلك وجب احترامه احتراما غير مشروط.
يتمثل المعنى الجوهري للاحترام في الفلسفة الأخلاقية لكانط في التعامل مع الغير باعتباره غاية لا باعتباره وسيلة أو مطية لتحيق المصالح الأنانية. ذلك لأن ما يعتبر غاية في ذاته هو كل ما يستمد قيمته من ذاته ويتمتع بالتالي بالاستقلال الذاتي الذي يعني استقلال الإرادة. ولذلك يعتبر كانط استقلال الإرادة أساس الكرامة الإنسانية، وجعل منه القانون الأخلاقي الكوني الذي يجب على كل فرد احترامه. يقتضي هذا المبدأ بأن يختار كل فرد بحرية الأهداف والغايات التي يريد تحقيقها. إن ما يجعل من الإنسان شخصا ذو كرامة هو استقلال الإرادة وحرية اختيار الأهداف والغايات وفقا لمبدأ الواجب الأخلاقي. وهذا ما جعل كانط يعتبر احترام الاختيارات العقلانية لأي شخص أسمى الفضائل الأخلاقية.
إن السلوك الأخلاقي، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، هو السلوك الذي يخضع للمبدأ الكوني المتمثل في الأمر المطلق، والذي يلزمنا بأن تتصرف في ظروف معينة بنفس الطريقة التي يجب أن يتصرف بها كل فرد في نفس الظروف. إن التصرف وفقا للمصلحة الخاصة أو الأهداف الخاصة لا يمت إلى الأخلاق بصلة. فإن كنت تعتقد، مثلا، بأن الالتزام بقول الحقيقة دائما هو سلوك جيد، لأن قول الحقيقة يبعث في نفسك مشاعر الارتياح والسعادة، فإن سلوكك هذا لا يعتبر أخلاقيا في نظر كانط ما دام الباعث عليه هو الدافع السيكولوجي المتمثل في الرغبة في تحقيق نوع من السعادة أو الرضا عن النفس؛ ولا يمكن اعتباره سلوكا أخلاقيا ما لم يكن الباعث هو مبدأ الواجب الأخلاقي. إن قول الصدق إرضاء للنفس لا يكتسي أية دلالة أخلاقية في نظر كانط.
ولبيان هذه الفكرة ضرب لنا كانط نفسه مثلا في كتابه "المبادئ الأساسية لميتافيزيقا الأخلاق" برجل يفكر في الانتحار؛ وكان هدفه من وراء هذا المثال هو إقناع القارئ بأن سلوك الانتحار ليس له مبرر كوني. وأما دليله في ذلك فهو استحالة أن يصير قرار الانتحار في ظروف معينة قاعدة بالنسبة لكل من يواجه نفس الظروف. يقول كانط بالحرف الواحد: "إن المنتحر على خطأ، لأنه لو كان مصيبا في قراره بقتل نفسه لوجب أن يدمر كل واحد نفسه". والمقصود بهذا القول هو أن الانتحار ليس واجبا كونيا يُلزم كل من وجد نفسه قي ظروف مماثلة لظروف المنتحر بوضع حد لحياته، ولا يمكن أن يصير قاعدة ذات صلاحية كونية ما دامت البواعث السيكولوجية كحب الذات أو عدم الرضا عن الحياة هي التي تقف خلفه؛ وطالما أنه لا يستند إلى قاعدة كونية ملزمة فلا قيمة له من الناحية الأخلاقية.
ولما كان مبدأ حرية الإرادة والاختيار هو مصدر الأخلاق فإن الانتحار يعني تدمير أسس الأخلاق والكرامة الإنسانية. يقول كانط بهذا الصدد: "إذا كانت الحرية هي شرط الحياة، فإنه لا يمكن استعمالها للقضاء على الحياة، لأنه باستعمالها ستكون قد دمرت وألغت نفسها. إن استعمال الحياة لتدمير الحياة ذاتها، أو من أجل فقدان الحياة [ينطوي على] تناقض ذاتي". وما يمكن استخلاصه من هذا المثال هو أن الحفاظ على الحياة هو مبدأ أخلاقي كوني يجب احترامه، لأن تدمير الحياة (الجسد) هو تدمير للإرادة أيضا.
لقد جاء كانط بفلسفة جديدة في الأخلاق تختلف اختلافا جوهريا عن الفلسفات السابقة وعلى رأسها فلسفة الأخلاق الأرسطية التي نالت حظوة خاصة في الأوساط الفلسفية واللاهوتية على امتداد قرون عديدة. ولذلك سنكتفي هاهنا بإجراء مقارنة بين أخلاق كانط وأخلاق نيكوماخوس لبيان ما إذا كانت العلاقة بينهما هي علاقة نفي وتجاوز وقطيعة.
نرتكز فلسفة الأخلاق الأرسطية على مصادرة مفادها أن غاية الحياة هي الخير الأسمى المتمثل في السعادة. وإذا كان أرسطو قد جعل من السعادة أسمى الفضائل الأخلاقية كلها فلأنه كان يعتقد أنها غاية الغايات أو الغاية النهاية المطلوبة لذاتها؛ وأما الفضائل الأخلاقية الأخرى فهي بالنظر إلى الخير الأسمى وسائل أو غايات مرحلية على الطريق المؤدية إليه. ما وجد الإنسان إلا ليعيش حياة سعيدة، هذا هو المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه فلسفة الأخلاق عند أرسطو والذي يجب أن يوجه السلوك العقلاني للإنسان. يمكن القول بعبارة واحدة: إن الفضيلة هي العمل بالعقل في اتجاه الخير الأسمى، وهو السعادة التي يعتبرها أرسطو غاية في ذاتها..
لا يتفق كانط مع هذه النظرية جملة وتفصيلا، ولذلك حاول نفيها وتقويض أسسها. ومن مآخذه الأساسية على أرسطو أنه أسس نظريته في الأخلاق على مبدأ أمبريقي سيكولوجي (السعادة)؛ ذلك لأنه لا يمكن تأسيس أخلاق ذات صلاحية كونية بناء على نزعة ما من نوازع الطبيعة الإنسانية، ولا يجوز أن نجعل من رغبتنا في السعادة مبدأ الأخلاق لأن الرفاهية لا تنسجم دائما مع الخير والفضيلة، إذ "من الصعب، حسب تعبير كانط، أن تجعل المرء سعيدا انطلاقا من جعله خَيِّرا"، هذا بالإضافة إلى أن مفهوم السعادة إذا نظرنا إليه من وجهة نظر تحليلية فسنجد أنه لا يتضمن مفهوم الخير الأسمى ولا يمكن استنباطه منه منطقيا. وبالتالي فإن هذا المفهوم لا يصلح كمعيار للتمييز بين الفضيلة والرذيلة ولا يُمَكِّنُ من تقدير ما إذا كانت للسلوك قيمة أخلاقية أم لا. هنا يكمن النقص الأساسي في نظرية الأخلاق الأرسطية في نظر كانط.
وإذا كان كانط يتفق مع أرسطو في أن الإنسان كائن عاقل وأن عليه أن يهتدي في تصرفاته بنور العقل، فإنه يختلف معه في أن يكون العقل دائما هو القوة الوحيدة التي تحرك الإنسان في سعيه نحو تحقيق السعادة، فكثيرا ما تكون الغريزة هي الدافع إلى ذلك. يبدو وكأن أرسطو لا يفصل بين الفكر والرغبة، بين المبدإ العقلي والمبدإ السيكولوجي (الرغبة) في السلوك الأخلاقي. ولما كانت الرغبات تختلف من فرد لآخر فإنه لا يمكن الارتقاء بالمبدإ الأخلاقي الأرسطي إلى مستوى الصلاحية الكونية. ولذلك اقترح كانط ضرورة الاعتماد في بناء الأخلاق على مبدأ قبلي متعالي غير مستمد من التجربة وهو الأمر المطلق غير المشروط بأية رغبة أو نزعة من نوازع النفس الإنسانية. إن تحرير المبدأ الأخلاقي من الرغبة هو الشرط الضروري الذي لا غنى عنه لمعرفة ما إذا كان السلوك أخلاقيا أم أنه خال من أية قيمة أخلاقية، وهو السبيل أيضا إلى تحقيق الصلاحية الكونية للأخلاق من خلال مقاومة الرغبات الذاتية. ومن هذا المنطلق رفض كانط أن تكون السعادة هي الخير الأسمى. وكان لابد أن يعيد تحديد مفهوم الخير الأسمى، حيث عَرَّفَه بأن الخير غير المشروط بأية رغبة أو مصلحة خاصة. وكأنما أراد أن يقول: قم بالواجب امتثالا للقانون الأخلاقي ولا تنتظر أية مكافأة مادية أو معنوية. هذا ما يضفي على السلوك قيمة أخلاقية. وعندما يكون الهدف هو تحقيق رغبة أو نزوة مهما كانت جيدة وبريئة وخَيِّرَةََ فإن السلوك لا تكون له أية قيمة أخلاقية، ولا يمكن القول عنه بأنه أخلاقي أو لاأخلاقي، إنه سلوك محايد من الناحية الأخلاقية.
وخلاصة القول: إن السلوك الأخلاقي في نظر كانط هو السلوك الذي يمليه مبدأ الواجب وليس مبدأ الرغبة مهما كانت خَيِّرَةََ. ومعنى ذلك أيضا أن الخير لا يصلح لأن يكون معيارا للأخلاق، لأن ما يسعد البعض قد لا يسعد البعض الآخر؛ ومما يترتب عن ذلك أن عدم القدرة على فعل الخير لا يعتبر إخلالا بالمسؤولية الأخلاقية، على اعتبار أنه لا يوجد في الأمر المطلق ما يلزم بكسب السعادة، لآن السعادة مثل أعلى مصدره الخيال لا العقل. وعلى العكس من ذلك فإن عدم الالتزام بالواجب هو إخلال خطير بالمسؤولية الأخلاقية المتمثلة في ضرورة احترام الأمر المطلق المتأصل في العقل الخالص. وإن كان هناك شيء يمكن اعتباره خيرا في ذاته فهو الإرادة الخيرة، وليس السعادة كما يعتقد أرسطو