كوجيطو سارتر: وجود الأنا في علاقته بوجود الغير
أحمد أغبال
ما هو الحل الذي قدمه سارتر لإشكالية وجود الغير بوصفه ذاتا ؟ وكيف تتحدد علاقته بالأنا عنده؟
حاول سارتر إيجاد حل لهذه الإشكالية انطلاقا من تحليله الفينومينولوجي لبعض التجارب الشعورية كتجربة الخجل. وإنما ركز سارتر في تحليلاته على ظاهرة الخجل لأنها تساعد على إبراز الطبيعة الأنطلوجية للوعي بالذات أو الشيء لذاته le pour-soi. والسؤال المطروح هنا هو: كيف يمكن إثبات أن الغير موجود كذات أو وعي أو شيء لذاته بحيث يمكن لهذا الغير أن ينخرط ويتورط في عملية تشكل التجارب الشعورية التي تمر بها الأنا كتجربة الخجل وما يرافقها من ظواهر الوعي؟ وقبل أن يقدم سارتر جوابه على هذا السؤال قام بمناقشة أطروحات بعض الفلاسفة، نوجزها في النقط التالية:
1. نقد أطروحة الفلسفة الواقعية: يرى سارتر أن الفلسفة ذات النزعة الواقعة غير مؤهلة بحكم مصادراتها الأساسية(=المعرفة هي نتاج الفعل أو التأثير الذي يمارسه العالم في الذهن أو الوعي) على إيجاد حل لمشكلة وجود الغير. ومن مآخذه الأساسية عليها:
v أنها تنظر إلى وجود وعي الغير على أنه وجود مفترض، إن وعي الآخر ليس أكثر من فرضية؛
v أنها تعتمد على الحدس لإثبات وجود ظواهر الوعي، ولكنها تستعمله في حدود ضيقة، ولا تمكن بالتالي من تفسير كيف يحصل إدراك أشكال الوعي والشعور لدى الغير بضرب من الحدس فور التعرف على جسده؛
v أنها تنظر إلى الجسد على أنه نقطة انطلاق وتشكل الوعي بالأخر مع أن الجسد، الذي يُعْتَقَدُ أن معرفة الغير بوصفه ذاتا مفكرة واعية تنشأ عنه، ليس إلا عنصرا من العناصر الأخرى (=الأجساد) التي تندرج ضمن "الفئة الأجسام" العامة التي لا فرق فيها بين هذا الجسد أو ذاك. وإذا كان الجسد غير متميز عن غيره من الأجساد فكيف يمكنه أن يفصح عن وعي متميز؟ "وإذا كانت الأرواح منفصلة عن أجسادها كانفصال محبرة المداد عن الكتاب، على حد تعبير سارتر، فكيف يمكن أن نتصور الحضور الفوري لأحدهما في الآخر" (الوجود والعدم).
إن اصطدام الفلسفة الواقعية بهذه الصعوبات هو ما جعلها تنقلب إلى فلسفة مثالية في نظر سارتر.
2. نقد أطروحات الفلسفات المثالية: لم تستطع مثالية كانط المتعالية بدورها إيجاد حل لمشكلة وجود الغير، لأنها نظرت إليه بوصفه ظاهرة من ظواهر العالم. وإذا كان الغير، الذي هو أنا آخر، عبارة عن مجموعة من التمظهرات أو التمثلات، فإن الأنا بدوره سيكون مجرد ظاهرة من الظواهر المعطاة هنا والآن، بينما هو في الحقيقة كائن متعالي، بمعنى عبر-زمني تتوحد فيه مظاهر الماضي والحاضر والمستقبل. إنه ليس مجرد تمثل؛ ولذلك فإن العلاقة بين الأنا والغير ليست علاقة بين تمثلات أو علاقة إبستملوجية، إنها علاقة أنطولوجية، بمعنى أن وجود الأنا يستلزم وجود الغير. ومعنى ذلك أيضا أن وعي ذات بوجود ذات أخرى، أو الوعي البيذاتي، له دلالة أنطولوجية. وكذلك أخفقت الفلسفة الهيجلية في الارتقاء بعلاقة الوعي البيذاتية إلى مستوى علاقة أنطولوجية، وعلى الرغم من أنها أخذت بعين الاعتبار واقع الغير، إلا أنها أفقرت العلاقات بين الذوات واختزلتها إلى مجرد علاقة إبستملوجية.
3. نقد أطروحة هوسرل: ويرى سارتر أن هوسرل أخفق مثل كانط في محاولته لتأسيس معرفة بالغير بوصفه موضوعا متعاليا، وظل ينظر إليه من منظور أمبريقي، ويتعامل معه كما لو كان مجرد موضوع أمبريقي. وإذا كان منهجه الفينومينولوجي قد ساعده على تشكيل فكرة عن الغير، فإنه لم يتمكن من معرفة الغير كما يعرف الغير نفسه، أو كما يتصور نفسه.
4. نقد أطروحة هيدجر: يتفق سارتر مع هيدجر في قوله بأن العلاقة بين الأنا والغير هي علاقة أنطولوجية وليست علاقة إبستملوجية؛ ويختلف معه فيما ذهب إليه من أن العلاقة بين الأنا والغير أو العلاقة البيذاتية هي علاقة تآزر وتكامل؛ ويرى على العكس من ذلك، وفقا للمنطق الهيجلي، أنها علاقة صراع. ومن مآخذه عليه أنه لم يقدم دليلا كافيا ومقنعا على أن "الوجود مع" dasein هو المبدأ الذي تقوم عليه العلاقة التي تجمع بين الأنا والغير في إطار بنية أنطولوجية.
وأما جواب سارتر على السؤال المطروح في مقدمة هذا العرض فيتلخص في أطروحته التي تقول: إن وجود كل من الأنا والغير يستلزم وجود الآخر؛ يمكن القول بعبارة أخرى: إن وجود كل واحد منهما يفصح عن نفسه يوصفه "علاقة وجود"، بمعنى أن كل موجود ينطوي في ذاته على ما يستلزم وجود الموجود الآخر، ويجعل إدراكه أمرا بديهيا كما هو الحال بالنسبة لإدراك الأنا في الكوجيطو الديكارتي؛ وكأننا بصدد نوع جديد من الكوجيطو، وهو كوجيطو الغير، ومعناه إدراك الغير إدراكا فوريا مباشرا باعتباره ذاتا واعية لا موضوعا.
ويتجلى الغير للأنا باعتباره ذاتا في سياق بعض التجارب الشعورية التي يمر بها الفرد عندما يجد نفسه وجها لوجه مع شخص آخر في وضعية حرجة؛ ومن أمثلة ذلك تجربة الخجل التي قام سارتر بتحليلها في كتابه المشهور "الوجود والعدم". يدعونا سارتر إلى أن نتأمل معه حالة رجل يسترق السمع من خلال ثقب الباب على ما يدور بين شخصين في إحدى الغرف؛ وبينما كان منهمكا في فعلته سمع وقع خطى من خلفه؛ التفت فإذا به يرى شخصا ماثلا أمام عينيه، فانتابه على الفور شعور شديد بالخجل. وما كان ليشعر بالخجل لولا أنه أدرك على الفور إدراكا يقينيا لا مجال للشك فيه أنه في مواجهة ذات واعية، ذات حولته بنظرتها على الفور إلى موضوع.
قام سارتر بتحليل تجربة الخجل لدى الشخص المتلصص لبيان ما يطرأ على الوعي من تحولات؛ وبدا له أن هذه التجربة تؤدي إلى حدوث نقلة في الحياة الشعورية للشخص المتلصص من حالة (أ) إلى حالة (ب):
(أ) حالة الوعي الذاتي غير المفكر فيه، وهي الحالة التي يحصل فيها نوع من التماهي بيني وبين أفعالي، ولا أفكر فيها، ولا أصدر بشأنها أي حكم معياري: لا أقول عنها إنها جيدة أو سيئة، خيرة أو شريرة، وإنما أعيش التجربة بنوع من تلقائية والعفوية على طريقة الموجود لذاته le pour-soi..
(ب) حالة الوعي الذاتي غير المفكر فيه التي تصبح فيها الأنا موضوعا عندما ينظر الغير إليها. إن نظرة الغير إلي هي التي تمكنني من الوعي ببعض الأمور الذاتية التي ما كان من الممكن أن يحصل لي الوعي بها لولا نظرة الغير إلي وأنا في حالة تلبس؛ فعندما يراني الغير أدرك على الفور أن سلوكي مبتذل فأخجل من نفسي أمام الغير، أخجل من الطريقة التي أبدو بها للغير. إن حضور الغير في وعيي بوصفه ذاتا واعية هو الذي جعلني أخجل من نفسي. "وإنه لمن البديهي، يقول سارتر، أن يكون خجلي خجلا غير مفكر فيه، لأن حضور الغير في وعيي [...] لا يتناسب مع الموقف المفكر فيه: ففي حقل نشاطي الفكري لا أصادف غير الوعي الذي هو وعيي. وها قد أصبح الغير يلعب دور الوسيط بيني وبين نفسي، فكان أن خجلت من نفسي كما بدوت لغيري"
لقد حصل تحول جوهري في الأنا منذ أن وقعت تحت نظرة الغير التي حولتها إلى موضوع، وبدا كما لو أنها أصبحت في ملكه، وعن هذه المواجهة تشكلت خصائصها التي هي خصائص بيذاتية كخاصية الخجل. لأن الخجل لا يحصل إلا عند ملاقاة الغير. وهكذا تنكشف الذوات لنفسها ولبعضها البعض من خلال عملية التفاعل، ولكنها عملية معقدة للغاية: ففي تجربة الخجل، تحولني نظرة الغير إلى موضوع، وتلغي وجودي كذات، وأبحث لنفسي عن مخرج من المأزق، ويكون رد فعلي الطبيعي هو العمل على موضعته وجعله موضوعا لي. فإذا كانت نظرته قد ألغت ذاتيتي وحولتني إلى موضوع، فإن نظرتي إليه سيكون لها نفس الأثر. ولكن علاقة التفاعل هذه ليست علاقة ثابتة، إنها علاقة جدلية، تتحول فيها الذات الفاعلة إلى موضوع ويتحول الموضوع بدوره إلى ذات واعية. إن موضعة الغير هي الطريقة الوحيدة لإثبات الذات وتميزها وتفردها. ولكن كل محاولة لإثبات الذات سرعان ما تبوء بالفشل، لأن كل طرف يلغي ذاتية الطرف الذي يريد أن يعترف له بخصوصيته الذاتية. وهكذا يكون كل طرف في حاجة إلى الطرف الآخر لإثبات ذاته وتميزه وتفرده ويلغيه في نفس الوقت كذات. وهذا التناقض هو ما يجعل العلاقات البيذاتية علاقات مضطربة وغير مستقرة.
يبدو في ضوء هذا التحليل أن البنية البيذاتية تنطوي على تناقض جوهري يتسبب في نشوب صراع مستمر بين الأنا والغير. إن نمط الوعي بالآخر كموضوع يلغي بالضرورة نمط الوعي بالآخر كذات، والعكس بالعكس؛ ولذلك كان من المستحيل، في نظر سارتر، أن يقبل كل طرف من الأطراف المتفاعلة الاعتراف بواقع الطرف الآخر. ولدعم هذا النموذج النظري إمبريقيا خصص سارتر فصلا كاملا من مؤلفه "الوجود والعدم" تحت عنوان "العلاقات الملموسة مع الآخرين". لتحليل ظواهر الحب والكراهية والسادية والمازوشية وما إلى ذلك. ومن النتائج الأساسية التي توصل إليها أن عدم الاستقرار في العلاقات بين الأنا والغير إنما يعبر عن سوء النية الذي يخيم بشكل طبيعي على العلاقات البيذاتية. تعكس هذه النتيجة بوضوح صدى فلسفة هوبز.