مفهوم الحقيقة
من النقد الكانطي إلى نظرية تارسكي
(الجزء الأول)
أحمد أغبال
يعتبر سؤال الحقيقة واحدا من الأسئلة التي تحتل مكان الصدارة في ميدان التفكير الفلسفي، يمكن صياغته على النحو التالي: ما الذي يبرر صدق كلمة أو رمز أو فكرة أو رأي لدى فرد ما أو مجتمع ما؟ هناك ما لا يقل عن ثلاث أو أربع نظريات كبرى تقدم لنا أجوبة مختلفة عن هذا السؤال؛ وسنكتفي هاهنا بالحديث عن نظرية التطابق والنظرية السيمونطيقية، على أن نعود إلى الحديث عن النظريات الأخرى في مناسبة لاحقة.
1. النقد الكانطي لنظرية التطابق
يدل مفهوم الحقيقة عموما على نوع من التطابق بين الفكر والواقع. وإذا كان هذا التعريف قد سيطر على العقول لفترة طويلة من الزمن، فإنه لم يعد يحظى اليوم بنفس الإجماع الذي كان يتمتع به في السابق. ولعل الفيلسوف الألماني عيمانويل كانط (1724-1804) هو أول من قوض بنقده أركان ذلك الإجماع، واقترح تعريفا جديدا للحقيقة؛ وسرعان ما تعددت تعريفاتها في العصر الحديث، وتنوعت وجهات النظر إليها، فظهرت نظريات عديدة حول مفهوم الحقيقة؛ وما زال هذا المفهومإلى اليوم محط نقاش وجدال بين المختصين بسبب اختلاف تصوراتهم لطبيعة الحقيقة ومعاييرها واختلاف آرائهم حول ما إذا كانت ذاتية أو موضوعية، نسبية أو مطلقة.
وتعتبر نظرية التطابق من أقدم النظريات المعروفة في تاريخ الفلسفة، وتصنف اليوم ضمن ما يسمى بالنظرية الماهوية التي تضم ما لا يقل عن أربع نظريات فرعية وهي: نظرية التطابق، ونظرية الانسجام والتماسك، والنظرية البنائية، ونظرية الإجماع. وما يجمع بين هذه النظريات كونها تنطلق من مصادرة واحدة، وهي أن الوقائع والظواهر والتجارب الإنسانية يمكن التعبير عنها بعبارات ذات دلالة؛ وأما ما يمز بعضها عن بعض فهو أن كل واحدة منها تنظر إلى الصيغ التعبيرية المستعملة في عمليات التفاعل بين الناس من منظور خاص، وتقدم تفسيرا متميزا لمسألة صدق القضايا المتعلقة بالتجارب الإنسانية.
تفيد نظرية التطابق أن صدق القضايا، أوالصيغ التعبيرية، يتحدد بمدى تطابقها مع الوقائع التي تخبرنا عنها. تعتبر العبارة صحيحة إذا وجد في الواقع ما يقابل مضمون تلك العبارة. يتوقف الصدق أو الخطأ إذن على ارتباط العبارة بالواقع الخارجي، وهو ما عبر عنه أرسطو بقوله:
"إن القول عما يوجد بأنه غير موجود، أو عما هو غير موجود بأنه موجود، هو قول خاطئ؛ وأما القول عما يوجد بأنه موجود، أو عما هو غير موجود بأنه لا يوجد، فهو قول صادق"
وإذا أردنا أن نعبر عن هذا التعريف بلغة العصر قلنا إن القضية أو العبارة الصادقة هي العبارة المطابقة للواقع. فإذا كانت العبارة تعكس الواقع كما هو بالفعل بطريقة موضوعية اعتبرت صادقة، وإذا كانت تعكس ذاتية الفرد أكثر مما تعكس الواقع الخارجي اعتبرت غير سليمة أو خاطئة. تقوم نظرية التطابق، إذن، على أساس التسليم بالمصادرة التي تقول بوجود واقع موضوعي قائم بذاته في استقلال عن أهوائنا ورغباتنا. ولكن كيف يتحدد مفهوم التطابق في هذه النظرية ؟ ما المقصود من القول إن الحقيقة تكمن في التطابق بين الصيغ التعبيرية والوقائع الموضوعية؟ ما دلالة مفهوم التطابق هنا ؟ أي شيء يجب أخذه في الحسبان عند الحديث عن التطابق ؟ وهل يتعلق الأمر بتطابق العبارة مع الواقع أم بتطابق دلالات العبارة مع ذلك الواقع ؟
ترجع جذور نظرية التطابق إلى الفلسفة اليونانية القديمة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، ورغم أنها تعرضت للنقد منذ ظهورها إلا أن ذلك النقد لم يقلل من أهميتها ولم يؤثر في مكانتها باعتبارها النظرية التي ظلت تحظى بإجماع الأغلبية على مدى قرون عديدة، إلى أن جاء كانط الذي فسح بنقده المجال لظهور نظريات جديدة. ومن مآخذه عليها أن تعريفها لعلاقة التطابق هو تعريف اسمي وأن أسلوبها في البرهنة لإثبات صحتها هو أسلوب عقيم يدور في حلقة مفرغة ولا يؤدي إلا إلى تحصيل الحاصل. وهذا نص مقتبس من كتاب كانط «introduction to logic» "مقدمة في المنطق" يلخص موقفه من نظرية التطابق:
"يقال إن مفهوم الحقيقة يدل على مدى التوافق بين المعرفة وموضوعها. وعليه، فإن معرفتي، بالنظر إلى هذا التعريف الذي لا يعدو أن يكون مجرد تعريف لفظي أو لغوي، لن تكون معرفة صحيحة إلا إذا كانت مطابقة لموضوعها. ولا يسعني والحالة هذه سوى أن أقارن الموضوع بمعرفتي وفقا لهذا المعيار، وهو ما يتطلب حصول المعرفة بالموضوع [قبل إجراء أية مقارنة بين الموضوع ومعرفتي عنه]. ومعنى ذلك أنه يتعين علي أن أتحقق من معرفتي ما دامت لا تنطوي في ذاتها على الشرط الكافي لقيام الحقيقة. وطالما أن الموضوع يوجد في العالم الخارجي [الموضوعي] وأن المعرفة توجد في العالم الداخلي [الذاتي] فإنه لن يكون باستطاعتي سوى أن أقرر ما إذا كانت معرفتي بالموضوع تتفق مع معرتي بالموضوع. هذا ما كان يسمى لدى القدماء بالاستدلال الدائري. ولذلك تعرض المناطقة لتهمة الوقوع في هذه المغالطة، وهي التهمة التي وجهها إليهم أصحاب النزعة الشكية: يرى هؤلاء أن من يتصور الحقيقة على النحو المشار إليه شأنه في ذلك شأن من مََثُلَ أمام محكمة وأدلى بتصريح؛ ولكي يثبت دعواه أحضر شاهدا لا يعرفه أحد من الحضور، ولما وجد الشاهد نفسه مضطرا إلى إثبات مصداقيته اكتفى بالقول إن الرجل الذي أخضره كشاهد هو رجل شريف"(*)
يرى كانط أن تعريف الحقيقة بأنها تطابق الفكر مع الواقع هو تعريف اسمي لا يخبرنا بواقع الحال، ويذكرنا بأنه كان محط جدل ونقاش حاد بين الفلاسفة القدماء: فقد كان أهل المنطق وعلى رأسهم أرسطو هم أول من قال بفكرة التطابق كمعيار للحقيقة؛ ولم تسلم هذه الفكرة من النقد في زمانهم، وكان أول من اعترض عليها هم أصحاب النزعة الشكية الذين يعتقدون بأن مقياس الحقيقة هو الإنسان. وما أثار كانط عند الشكاك ليس تصورهم للحقيقة ومعيارها، بل نقدهم لتصور أهل المنطق لمعيار الحقيقة، وهو نقد جذري استهدف الأساس أو البنية المنطقية التحتية التي تقوم عليها نظريتهم: لقد أرادوا تفكيك وتقويض أسلوبهم في البرهنة عليها: وقالوا إنه أسلوب دائري عقيم يدور في حلقة مفرغة diallelos/diallèle. يرى أصحاب النزعة الشكية أنه لا يمكن تفادي هذا النوع من الاستدلال الدائري؛ فعندما نريد البرهنة،مثلا، على أن "أ" صحيحة من خلال افتراض أن "ب" صحيحة، فإنه سيكون بإمكاننا أن نبرهن أيضا على أن "ب" صحيحة من خلال البرهنة على أن "أ" صحيحة. وهكذا نجد أنفسنا في حلقة مفرغة كلما استخدمنا قضية معينة للبرهنة على قضية أخرى دون أن يكون هناك ما يثبت صحة أية واحدة منهما على نحو قبلي. ومن أمثلة ذلك أن إثبات قيمة العقل، يتطلب الاستناد على دليل عقلي، ولتوفير هذا الدليل يُعْمَدُ إلى استخدام العقل الذي يراد إثبات قيمته التي وضعت موضع تساؤل.
لقد فتح كانط بنقده لنظرية التطابق أفقا جديدا أمام نظريات الحقيقة، من حيث أنه بين حدودها وكشف عن تناقضاتها. ومن هنا كان لابد من إعادة النظر في نظرية التطابق. تتلخص هذه النظرية فيما يلي: تعتبر القضية "أ" صحيحة إذا كانت "أ" مطابقة فقط للواقع وهذا مثال على ذلك: إن القول بأن بعض الفطريات سامة يكون صادقا إذا كانت القضية "بعض الفطريات سامة" مطابقة لواقع كون بعض الفطريات سامة. وإليك مثال آخر: إن القول بأن الله موجود يكون صادقا إذا، وفقط إذا كان وجود الله واقعا بالفعل. وهذا تطرح مشكلة تحديد علاقة التطابق؟ كيف يمكن الجزم بأن القضية مطابقة للواقع؟
يرى فتغنشطاين Ludwig Wittgenstein أن "التطابق" بين القضية والواقع لا يتحقق إلا إذا كانت بنيتاهما متماثلتان من الناحية الشكلية أو المنطقية isomorphic: فلكي تكون القضية صادقة من وجهة النظر هذه، فإنه يجب أن يكون لها في الواقع ما يقابلها، شيء له بنية مماثلة للبنية المنطقية للقضية التي يراد فحصها: فالقضية "أ" يجب أن تكون مطابقة للواقعة التي لها خصائص "أ" في حال كانت "أ" صادقة. وعلى هذا الأساس يمكن القول إن القضية "أ" تكون صحيحة في حال فقط كانت هناك واقعة لها خصائص "أ"؛ وفي هذه الحالة تكون القضية "بعض الفطريات سامة" صادقة في حال فقط وجدت في الواقع بعض الفطريات السامة. يتحدد التطابق هنا بالمعنى التالي: إذا كانت الواقعة التي لها خصائص "أ" موجودة فإن القضية "أ" تكون صادقة، بمعنى أن القضية الصادقة هي القضية الواقعية. وهكذا فإن القضية: "الله موجود" تكون صادقة إذا كانت هناك واقعة تتمثل في وجود الله. وهنا تطرح مشكلة أخرى تتعلق بتحديد مفهوم الواقع: فما هو الواقع ؟ ماذا يفيد القول بأن الواقع موجود ؟
1. نظرية تارسكي: النظرية السميونطيقية
تكمن المشكلة في إمكانية أن تكون تصوراتنا للواقع مختلفة وفي اختلاف طرق التعبير عنه، بل إن هناك علاقة بين تصورنا للواقع واللغة التي نستعملها للتعبير عنه: ومما يدل على ذلك صعوبة ترجمة العديد من المفاهيم المستعملة في لغة ما إلى لغة أخرى: إن بعض المفاهيم المستعملة في لغة معينة قد لا يكون لها ما يقابلها في لغة أخرى، ولا يمكن بالتالي ترجمتها. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه من الصعب القول بأن الحقيقة تكمن في التطابق بين العبارة وما تشير إليه في الواقع، مادامت تصورات الناس للواقع وطرقهم في التعبير عنه مختلفة؟
وهذا ما حدا بعالم المنطق البولوني ألفريد تارسكي (1901-1983) إلى إعادة تحديد مفهوم التطابق من خلال التمييز بين اللغة-الموضوع object language واللغة الماورائية أو الورا- لغة metalanguage من أجل تفادي الوقوع في المفارقات المنطقية كمفارقة من يقول "أنا أكذب"، فلا نعرف ما إذا كان صادقا أو كاذبا في قوله. تشمل اللغة باعتبارها موضوعا كل القضايا التي نتحدث عنها ونريد إصدار حكم بشأنها، وأما اللغة الماورائية فهي اللغة التي نستعملها في حديثنا عن تلك القضايا. ولبيان تصوره لعلاقة التطابق يدعونا تارسكي إلى اعتبار الجملة: "الثلج أبيض"، متسائلا: ضمن أية شروط تعتبر هذه الجملة صادقة أو خاطئة؟ فإذا نظرنا إلى هذه القضية في ضوء نظرية أرسطو قلنا: تكون العبارة صادقة إذا كان الثلج أبيضا. ولكي يتوافق هذا التعريف مع تصوره للحقيقة، اقترح تارسكي التعبير عن علاقة التطابق وفقا للصيغة التالية:
تكون الجملة: "الثلج أبيض" صادقة إذا، وفقط إذا كان الثلج أبيضا
هناك تكافؤ بين طرفي هذه الصيغة التعبيرية: ففي شطرها الأول ورد اسم الجملة المراد التأكد من صدقها بين مزدوجتين، ووردت الجملة ذاتها في الشطر الثاني بدون المزدوجتين. وإذا أردنا أن نعبر عن هذه المسألة بلغة فلاسفة القرون الوسطى قلنا إن الجملة: "الثلج أبيض" وردت في صورة مادية في الشطر الأول suppositio materialis، ووردت في صورة شكلية suppositio formalis في الشطرالثاني. ولكن، ماذا يقصد تارسكي بقوله: إن الشطر الأول يتضمن اسم الجملة (=وصف الجملة) وليس الجملة ذاتها؟ يقول بهذا الصدد:
"إنه من الضروري جدا بيان لماذا يجب أن يقع اسم الجملة، وليس الجملة ذاتها، في الشطر الأول من المعادلة. لأنه بداية، وفي المقام الأول، إذا نظرنا إلى الأمور من وجهة نظر نحوية فإن عبارة من نوع "X صادقة" لن تكون جملة مفيدة إذا استبدلنا فيها " X" بجملة أو بأي شيء آخر غير الاسم؛ لأن الفاعل في الجملة لا يمكن أن يكون شيئا آخر غير الاسم أو عبارة تقوم مقام الاسم. وفي المقام الثاني، تقتضي المواضعات الأساسية المتعارف عليها في إطار كل لغة أن يُستعمل الاسم في تركيب كل جملة للتعبير عن أي موضوع، ولا تجيز استعمال الموضوع ذاته. وبالتالي، إذا وددنا أن نقول عن الجملة شيئا، كأن نقول، مثلا، إنها صادقة، وجب أن نستعمل اسم الجملة، وليس الجملة ذاتها"(*)
يميز تارسكي بين اسم الجملة والجملة ذاتها، ولذلك دأب على وضع الجملة-الاسم بين مزدوجتين لتمييزها عن الجملة؛ ثم عمم هذا الإجراء على جميع الجمل: لنعتبر أية جملة أخذت بشكل اعتباطي، ولنعبر عتها بالحرف "p"، ثم نقوم بعد ذلك بتشكيل اسم هذه الجملة، ونعبر عته بالحرف"X"، ثم نتساءل بعد ذلك: ما هي العلاقة المنطقية الموجودة بين القول بأن "X صادقة" و"p". يرى تارسكي أن هاتين الجملتين متكافئتين equivalent بحيث يمكن القول:'' X صادقة إذا، وفقط إذا، كانت p"